وقال تعالى: وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلاً[النساء:83]
إِنَّ هذه النوازل الجليلة التي نزلت ببلاد المسلمين،وحلَّت بِحواضرها = لا ينبغي لمسلم أن يتعامل معها إلا بأداتين لا سداد للقول ولا صلاح للعمل دونهما :
الأولى : تحرير الصورة الواقعة تحريراً يستوفي القدر الكافي لتأسيس الحكم الشرعي.
الثانية : الاجتهاد في طلب الحكم الشرعي للصورة الواقعة على ما يراه المجتهد.
وأكثر ما يؤتى الناس في تلك النوازل من التقصير في تحصيل هاتين الأداتين، إما بدخول الخلل على التصور الصحيح للواقع، وإما بدخول الخلل على الاجتهاد في طلب الحكم الشرعي، وقد يجتمعان.
ويدخل الخلل على التصور الصحيح للواقع وعلى الاجتهاد في طلب الحكم الشرعي إما بالتقصير في استفراغ الوسع في تحصيلهما، وإما بدخول شيء من الهوى عند النظر فيما تم تحصيله، وقد يجتمعان.
من هنا كان الكلام في تلك النوازل العظيمة يفتقر لأولي الرتب العالية من المجتهدين، ولا ينبغي أن يُقدم عليه من قصرت رتبته عن ذلك، ولما ذكر شيخ الإسلام طرفاً من وجوه النظر فيما كان بين الصحابة من خلاف وفتن قال :وَفِي الْجُمْلَةِ فَالْبَحْثُ فِي هَذِهِ الدَّقَائِقِ مِنْ وَظِيفَةِ خَوَاصِّ أَهْلِ الْعِلْمِ.
ولا نعني بما تقدم قصر الكلام على معيَّنين من أهل العلم، ولا على أهل بلد معين أو منصب معين، وإنما نقصد إلى بيان عظم مقام الفتيا في تلك النوازل الجليلة، ونعظ أنفسنا وإخواننا المسلمين أن تأخذهم شهوة الكلام والتحليل إلى الوقوع في القول على الله بغير علم، وإن أقل الفقهاء في تلك النوازل هم من تجتمع لديهم معطيات الواقع الصحيحة وآلات النظر الشرعي السليمة مع بذل للجهد وسلامة من الهوى، ورعاية للفروق بين الصور، وتنبه للتراكيب التي تكون في الوقائع، وتمييز لمنهج النظر في الخير المجرد والشر المجرد عن منهج النظر الذي يراعي خير الخيرين وشر الشرين، وتحرير لرتب المصالح والمفاسد وفقه التعارض والترجيح بينها.
(6) يقول الله عز وجل:وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ [هود:119]
فإذا تكلم أهل العلم المجتهدون فإن الغالب في مثل هذه النوازل العظام هو أن يختلفوا وتتضاد آراؤهم فلا تتفق كلمتهم؛ إذ مدارك النظر في الواقع في مثل هذه المحالِّ تتباين، ووجهات النظر في الشرع يبعد أن تتحد في هذه المواطن.
وكل اختلاف سيما ما كان عاماً نازلاً فهو فتنة، ومواقف الناس في الفتنة إما مشاركة وإما اعتزال، فالمسلم لا يخرج مع هذا الاختلاف عن حالين:
الأول : أن يستبين له الحق وتظهر له البينة التي مع أحد الأقوال فيشارك بما تقتضيه نصرة القول الذي اختاره.
الثاني : أن يشتبه عليه الحق فلا يتبينه.
فأما من اشتبه عليه الحق فلم يتبينه = فيسعه طريقان :
الأول : أن يقلد من يطمئن لكونه أفقه وأدين إن كان فرق الفقه والدين بين المفتين بيّناً .
الثاني : أن يتوقف فتكون النازلة بالنسبة له من مواطن الفتن التي يشتبه فيها الحق بالباطل فيجب اعتزالها.
فآل الأمر إلى موقفين لا يكاد يخرج عنهما أحد ممن طلب حكم الشرع في نازلة من النوازل العامة.
الأول : موقف من اطمئن لرأي لظهور البينة أو للتقليد فهو يشارك في الأحداث بما ينصر هذا الرأي.
والثاني : موقف من اشتبه عليه الأمر فوجب عليه اعتزاله ،أو تبين له حق لكنه يختار السلامة بالاعتزال مخافة مغبة الخطأ.
(7) يقول الله عز وجل : إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ [آل عمران: 19]
إذا تقرر ما تقدم من انقسام الناس الغالب وقوعه في تلك الأحداث = فليُعلم أن اختلاف المجتهدين المؤهلين للفتوى والمؤدي للمواقف السابق ذكرها لا يخرج في أكثر الأحوال عن كونه اجتهاداً سائغاً؛ إذ النوازل من أكثر مظان الاجتهاد السائغ تجلياً، وهذا الاجتهاد السائغ لا يوجب فرقة، ولا يكاد يقع الافتراق في الاجتهادات السائغة إلا بسببين :
الأول : اجتهاد من ليس بأهله، وتصدر من لا يحسن وما في حكمه، كتقصير المجتهد المؤهل، أو إعراض من ظهر له الحق عن البينة.
الثاني : أن يبغي بعض المجتهدين على بعض.
وقد قدمنا في النقطة الأولى نصيحة المسلمين من تصدر غير المتأهلين للكلام في هذه النوازل، وننبه في هذه النقطة على حرمة البغي والظلم، وأنه لا يجوز التشنيع أو الاعتداء بالقول أو الفعل على من اختار قولاً في مثل هذه النوازل من المجتهدين أو المتبعين لأقوالهم.
فأياً ما كان اجتهاد المجتهد المستوفي لآلته وشروطه = فإنه لا يجوز التشنيع عليه ولا على من اتبع قوله، ولا يجوز حمل الناس على قول واحد في مثل هذه النوازل، والإنكار فيها إنما يكون بمناقشة الحجة بالحجة لا بالتشنيع أو اللوم والتثريب.
فاستبانة الحق من الباطل لبعض المجتهدين ليس قاضياً على نظر غيرهم من المجتهدين.
· يقول الشافعي عن بعض المحرمات : ((فهذا كله عندنا مكروه محرم، وإن خالفنا الناس فيه، فرغبنا عن قولهم، ولم يدعنا هذا إلى أن نجرحهم، ونقول لهم : إنكم حللتم ما حرم الله، وأخطأتم؛ لأنهم يدعون علينا الخطأ كما ندعيه عليهم، وينسبون من قال قولنا إلى أنه حرم ما أحل الله عز وجل)).
· وقال شيخ الإسلام : ((ومسائل الاجتهاد لا يسوغ فيها الإنكار إلا ببيان الحجة وإيضاح المحجة)).
· وقال شيخ الإسلام : ((هكذا مسائل النزاع التي تنازع فيها الأمة في الأصول والفروع إذا لم ترد إلى الله والرسول لم يتبين فيها الحق بل يصير المتنازعون على غير بينة من أمرهم. فإنهم رحمهم الله = أقر بعضهم بعضاً، ولم يبغ بعضهم على بعض، كما كان الصحابة في خلافة عمر وعثمان يتنازعون في بعض مسائل الاجتهاد فيقر بعضهم بعضاً ولا يعتدي عليه)).
ولا يليق بالمسلمين في هذه المواطن الشديدة على الظالمين أن يكون بأسهم بينهم شديدا فلا يتراحمون بينهم، ولا ينبغي لأهل العلم والديانة أن يشتغلوا بتراشق الألفاظ وتقاذف التهم، وليسع بعضنا بعضاً، وليقبل بعضنا من بعض، وليقر بعضنا بعضاً، ولا يكن من ظن أنه على الصواب منا إلا مقيماً لاحتمال أن يكون الخطأ معه والصواب مع أخيه، ولنكن إخواناً متراحمين، وليسعنا ائتلاف القلب إن ضاق بنا اختلاف الرأي.
(
ونختم بوصايا عامة نسأل الله عز وجل أن يرزقنا العمل بها :
- الاعتصام بالكتاب والسنة والرجوع إليهما ، والتفكر في آيات الله سبحانه في مصير الأمم السالفة وكيف تسير الأمم الخالفة على سنن الله سبحانه وتعالى.
- الصبر والصلاة والتوبة والاستغفار والدعاء هي عدة المؤمن في البلاء.
- التثبت من الأخبار وعدم البناء إلا على العلم من أعظم ما يعتصم به، وأكثر ما تكون الأخبار في الأحداث الجسام = هو أن تكون مجرد أنباء لا يعلم صدقها من كذبها، والصدق فيها قليل.
- الحلم والرفق والأناة أبواب من الخير من لزمها = لم يلق إلا خيراً، والعجلة أمّ الندامات.
- احفظ لسانك فلا تقل إلا من حيث تعلم، ولا تقل إلا خيراً.
- العاقل من سأل الله أن يعافيه ويُسلمه وأن يسلم المؤمنين منه.
- لا ينبغي لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر إلا أن يكون له ثغر خير يناسب قوله في تلك النوازل يقوم عليه فيُري الله منه ما يحب.
- أياً ما كان قول المجتهد أو من تبعه في قوله = فليحرص على التعاون مع المخالفين من المجتهدين في موارد الاتفاق، وأن يسهم بسهم في تخفيف الضرر والشر، وأن يستغل ما تؤول إليه الأمور استغلالاً شرعياً، وأن يزيح بقدمه فيفرغ لأهل الحق موضعاً.
- أياً ما كان قول المجتهد = فليكن همه أن تكون كلمة الله هي العليا مستمسكاً بثوابت دينه لا يتزلزل عنها وليُعلم أنه قد ينهزم أهل الحق و قد ينتصرون، وقد ينتصر أهل الباطل وقد يهزمون، والدنيا ليست بدار نصر للحق دائماً، ولا دحر للباطل دائماً، وقد نجني الثمر من الأحداث وقد نجني منها الحنظل، ولكن الذي يبقى لنا إرثاً نتوارثه وحناناً نأوي إليه وحسنة نتوسل بها = هو حفاظنا على ثوابتنا، ومن نَحَرَ ثوابته قرباناً لأغراضه = فهو الخاسر ولو ظن أنه ظفر، وهو المهزوم وإن توهم أنه انتصر.
- معاشر المجتهدين والفقهاء نهيب بكم بجميع أطيافكم أن تكونوا على مستوى الأحداث التي ستمر بها مصر وتونس وليبيا واليمن وغيرها في الفترة القادمة.
نهيب بكم حسن صناعة الاجتهاد وصياغته بما يخدم مصالح الأمة في الفترة القادمة.
نهيب بكم أن تستحضروا معارفكم حول فقه الأزمنة التي تعرى عن خلافة النبوة، وأن فقه تلك الأزمنة يستوجب مرونة أكثر بما لا يتنافى مع ثوابت الشرع ولا يهدرها تحت أقدام مصالح متوهمة، ولا يضيع مكاسب الأمة أيضاً تحت مفاسد لم توزن بميزان صحيح.
نحن في مرحلة صناعة للمستقبل، تأملوا فيها كيف نخفف الشر بالشر الأقل ، وكيف نسلك السبيل ليس حلالاً خالصاً ولكن تفويته يورث الحرام الخالص والشر الأغلب.
نهيب بكم أن تحرصوا على الاجتهاد الجماعي قدر الطاقة، وأن تنظروا لمصالح الأمة عامة لا لمصالح مدينة معينة أو قطر معين.
نسأل الله عز وجل أن يهيئ لنا من أمرنا رشداً، وأن يحفظ مصر وتونس وليبيا واليمن والبحرين وسائر بلاد المسلمين من كل شر وسوء, وألا يجعل الدائرة على أهل الحق، وأن يجعل مآل أمورنا إلى خير، وأن يرينا الحق حقاً, والباطل باطلاً, وأن يجعلنا إخواناً على الحق متراحمين, ولا يجعل بأسنا بيننا.. والحمد لله رب العالمين .
الجمعة 22 ربيع الأول 1432هـ
قرأه وأقره :
1- د. مساعد بن سليمان الطيار .
2- د. عبدالرحمن بن معاضة الشهري .
3- د. محمد بن عبدالله العبيدي القحطاني .
4- د. فهد بن مبارك الوهبي .
5- د. حاتم بن عابد القرشي .
6- نايف بن سعيد الزهراني .
7- محمد بن حامد العبَّادي .
8 - محمد بن عمر الجنايني .
9 - أبو إسحاق الحضرمي .
10 - محمود الشنقيطي .
11- أبو فهر السلفي .
منقول من ملتقى أهل التفسير,,
__________________